ثمة حقائق نود ان نستهل بها حديثنا عن التراث الفلسطيني في غمرة الاحتفاء به هذه الايام وايلائه مزيدا من الرعاية والاهتمام . فهذا التراث ليس اكتشافا حديثا ولا هو مجرد صرعة عصرية نقلد بها الآخرين ، ولا أي شيء من هذا وذاك سوى انه ارشيف حياة عاشها الاجداد والآباء على هذه الارض التي نفحوها اقصى ما لديهم من طاقات عمل وتفكير وابـداع . فاستحقوا هم واحفادهم من بعدهم الحياة على ترابها .
ان التراث الفلسطيني شأنه شأن كثير من القضايا الثقافية يحتل مساحة مرموقة من الذاكرة الفلسطينية ، وهي بكل تأكيد لم تلتف عليه في مجمل المسيرة النضالية ، بل انه شكل لدى ورثته دافعا انسانيا استقر في اللاشعور وهم يغذون الخطى على طريق عودة ظهورهم على خارطة الوجود والابداع الانسايين .
واذا كان هناك من مبرر سابق لعدم ايلاء التراث الفلسطيني درجة من الاولوية يستحقها ، او انزاله المكان اللائق به ، فلكون الشعب الفلسطيني عبر مساحة عريضة من الزمن كان يخوض غمار نضالات اخرى تحت ظلال احزانه وتوابع هزة نكبته الرئيسة عام 1948 ، مضافا اليها بيئات المنافي شبه القاتلة التي فرضت عليه ، ومع ذلك فها هو شيئا فشيئا يصحو من نكبته على كل مقومات حياته ووجوده ومن اولاها التراث .
تعود اهمية التراث الفلسطيني من انه الوثيقة الدامغة التي لا تقبل الشك بها ، والتي تثبت حق الشعب الفلسطيني في ارضه ووطنه بعد ان استولى الغاصبون على معظم هذه الارض ، ودمروا ما عليها من قرى وبلدات كانت تحمل اسماء فلسطينية عربية ، وبنفس الوقت كانت مسرحا متواصل العطاء متوارثا لفعاليات انسانية مارسها الأجداد والآباء عبر عصور وقرون من الزمان شكلت وجوده الانساني وتميزه على مساحة من الجغرافيا العالمية اسمها فلسطين .
ويوم حلت النكبة وهجر هذا الشعب قسرا ، وكان التهجير ، حمل الشعب الفلسطيني معه منظومة عاداته وتقاليده ، افراحه واتراحه ، قيمه ومثله ، اساليب تعامله وتكيفه وردوده على تحديات البيئة الى منافيه في الشتات الواسع متعدد المناخات الثقافية والحضارية والايديولوجية . وصحيح ان التراث الفلسطيني لم يتعرض كله للاقتلاع من ارضه وبيئتيه الطبيعية والثقافية ، ذلك ان جزءا آخر من الشعب الفلسطيني ظل مرابطا على ما تبقى من الارض ومحتفظا بمخزونه من هذا التراث .
الا ان تراث الشعوب النامية بعامة ، والتراث الفلسطيني وهو المقصود هنا قد تعرض في النصف الثاني من القرن العشرين الى كثير من المتغيرات على خلفية التطورات التقنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية ، وموجات العولمة الثقافية باعتبارها ثقافة الشعوب الاقوى والاغنى والحائزة على التقنية المتطورة - ولسنا هنا بصدد الحديث عنها الا في ما يخص التراث الفلسطيني - الا انها بمجملها تدفعنا وتحثنا على ان نعيد حساباتنا مع التراث بهدف الحفاظ عليه من غائلة الذوبان او التلاشي او الهجر او التنكر له او الاهمال او التفريط به .
وبداية فان النكبة التي فرضت على الشعب الفلسطيني تجاوزت الارض واستهدفت الانسان بهدف تجريده من تراثه الذي كان ولا يزال احد مقومات وجوده الانساني وهويته الانتمائية الى المكان المتمثل " بالارض الوطن " ، والزمان المتمثل بالتاريخ . وفي ما يخص التراث تعرض بشتى الوسائل والاساليب القهرية الى حالات من الطمس والتعتيم عليه كونه مرتبطا بالارض والوطن والدار والهوية ارتباطا وثيقا ، ومن ناحية اخرى تعرض الى الاستلاب والانتحال من قبل الغاصب الذي نسب كثيرا منه الى ابداعاته وتفكيره .
ثمة دوافع اخرى تخص المنافي والشتات التي يتواجد فيها الشعب الفلسطيني . فالاجيال الفلسطينية الناشئة تعايش ، او انها تفرض عليها ثقافات غير فلسطينية او عربية ، الامر الذي يهدد بانقطاع الصلة والتواصل مع الوطن الام بتراثه ومحدثاته . واذا ما اضفنا الى كل ما اسلفنا عوامل تطور الحياة تطورا سريعا مثيرا شمل كاف النواحي التي عمل على تغييرها الامر الذي دفع بالكثيرين للالتفاف على التراث وعدم الوقوف عنده واعتباره شيئا من مخلفات الماضي تجاوزته روح العصر والحضارة والتقنية .
وفي هذا الصدد نشير الى ان شريحة اجتماعية ثقافية تطعمت بالثقافات الغربية قد تنامت في الوطن العربي ، ناظرة الى التراث ومجمل الثقافة العربية نظرة دونية ومحملة اياهما تبعات التخلف الحضاري والثقافي في شتى اقطار الوطن العربي ومنها بطبيعة الحال فلسطين ، وقد تعزز هذا التوجه في غمرة الهزائم السياسية والعسكرية والاقتصادية التي حصدتها السياسات العربية خلال نصف القرن الماضي والتي دفعت بالعديد من مثقفي هذه الشريحة الى المطالبة باعادة النظر في كل الموروثات العربية المسؤولة عن تكون التفكير والسلوك العربيين ومجمل ردود الافعال ازاء التحديات المفروضة .
وبمعنى اخر ضرورة الانفلات من قيود التراث والثقافة الموروثة . وهذا بحد ذاته دافع رئيس يحث على رفض هذه المقولات المغرضة التي تهدف الى تغريب المجتمعات العربية وتجريدها من خصوصياتها وتميزها وثقافاتها ومجمل موروثاتها .
ان الحديث عن التراث ذو شجون ، الا ان اهم ما يكن الحديث عنه هو يقظة الاهتمام الحالية لدى شريحة فلسطينية تعتبر ان العمل على اكتشاف مكتنزاته والحفاظ عليها واعادة نشرها جزء لا يتجزأ من النضال لتثبيت الهوية الوطنية ، والحق في الارض الوطن ، وسلاحا للاجيال يضفي على شخصيتها الوطنية والثقافية ابعادا تعمق كل مجمل انتماءاتها للأرض والانسان ولكل الابداعات الأخرى .
واذا كان لنا من رؤيا تخص التراث الفلسطيني في هذه الايام بالذات ، فهي تبدأ بالباحثين الذين اخذوا على انفسهم البحث عنه ودراسته واكتشاف العبر منه وتوثيقه ، وبهذا الصدد لا ينبغي بأي شكل من الاشكال التركيز على الجوانب الاقليمية منه بل ابراز الجوانب المشتركة مع بقية التراثات العربية بهدف ان تكون عاملا وحدويا لا اقليميا .
وبالتالي فان مسؤوليات كل الجهات الثقافية تتعدى مجرد الاحتفاء به في يوم واحد الى ايجاد مؤسسات راعية ومطورة له في اطار كوادر علمية وفنية وميزانيات مخصصة . كما ان اخطر مسؤولية تقع على المناهج التربوية في كل المراحل التعليمية ، اذ لا بد ان تكون هناك مناهج للتراث جنبا الى جنب مع مناهج التاريخين الفلسطيني والعربي . وبهذا الصدد فان دور الاعلام اساسي في ابراز التراث ونشره وحتى تسويقه ثقافيا .
كلمة اخيرة ، ان الصراع على التراث والتاريخ في منطقتنا لا يقل اهمية عن الصراع على الأرض والماديات الأخرى بل هو جزء لا يتجزأ منها . والتراث الفلسطيني يستحق منا نحن احفاد مبدعيه ان نحافظ عليه وان نعيد له بهاءه ورونقه على طريق التواصل الذي هو مدخل الانتماء الى الانسان والارض الوطن .[/align]