الزخرفة الشعبية الفلسطينية في الفن التشكيلي
التاريخ: 1423-2-9 هـ الموافق: 2002-04-21م الساعة: 00:00:00
تعتبر «الزخرفة » من أكثر جماليات الفولكلور الفلسطيني حضورا في الحياة الفلسطينية ، وتعود جذورها إلى اقدم الحضارات الفلسطينية ، فقد استخدمت لتجميل الحياة منذ عدة آلاف من السنين قبل الميلاد، أي منذ حضارة الاجداد الكنعانيين العرب، فظهرت بأشكالها البدائية على الأواني الفخارية التي كانت تستخدم لتخزين الزيوت التي اشتهرت بها فلسطين ، ثم شملت مختلف الأواني، وأخذت طريقها إلى الأزياء الشعبية بما في ذلك أزياء الرجال والأطفال واتسعت رقعتها فيما بعد لتشمل العمارة والصناعة والفن الشعبي. وهكذا اصبحنا نرى الزخرفة على جدران المباني وصفحات الكتب والنسيج والخزف والنحاس والخشب..
ولم تستخدم الزخرفة كجمالية على صلة بالمنفعة «تزيين وتجميل الصناعات اليدوية والعمارة» فقط ، بل استخدمت ـ أيضا ـ كرموز تعبيرية ارتبطت بالعادات والتقاليد والمعتقدات والمقدسات منذ عصر الاساطير إلى فجر الحضارة الإسلامية مروراً بالمسيحية. وتؤكد الدراسات والبحوث الاثرية والجمالية أن المسيحية قد استعارت جماليات الفولكلور الفلسطيني ولم تطمسها، وعلى سبيل المثال يمكن أن نشير إلى الزي الرسمي للبابا والذي يقترب إلى حد كبير من الأزياء الكنعانية بتكويناته وزخارفه، وحين انتشر الإسلام لم يبدل من الزخارف التي ظلت حافظة هويتها الفلسطينية ، وهذا يعني أن نميز بين الزخرفة العربية والزخرفة الإسلامية، وهذا ما لم يدرسه علماء الجمال الذين أرجعوا كل زخرفة عربية إلى الحضارة الإسلامية، وقبل أن نتحدث عن استخدامات الزخرفة الفلسطينية في الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر لا بد من التنويه بحضورها المتميز عبر مختلف قنوات الفولكلور الفلسطيني «الزخرفة على جدران المباني ـ الزخرفة في الكتب ، الزخرفة على الازياء والسجاد والبسط ، الزخرفة على الأدوات النحاسية والخشية والخزفية.. الخ» كما لا بد من الاشارة الى ضرورة التمييز بين الزخرفة كتعبير والزخرفة كتزيين، فقد اخذت في الفولكلور الفلسطيني أكثر من قيمة «جمالية» و«تزيينية» و «تعبيرية» و «رمزية» ، أي تنوعت وظائفها ودلالاتها ومعانيها، مما يؤكد أخيراً أصالتها في تجذرها في الحياة الفلسطينية واستمراريتها عبر مختلف الأجيال والعصور.
ترى ماذا عن استخداماتها في الحركة التشكيلية الفلسطينية المعاصرة؟ كيف تناولها فنانونا كتعبير؟ ما هي المضامين التي طرحوها في معالجتهم الزخرفة الفلسطينية وعبر مختلف التقنيات «تصوير ـ حفر ـ ملصق ـ نحت»؟
ـ 2ـ
لقد استخدمت الزخرفة في الفن الفلسطيني المعاصر في مختلف المراحل، من تجارب الرواد والاوائل إلى الشباب مرورا ، بتجارب جيل الستينات «جيل الثورة» بحيث يمكن أن نتحدث عن اتجاه زخرفي للفن الفلسطيني وذلك ضمن الاتجاهات التراثية السائدة ،وحين نستخدم مصطلح «اتجاه زخرفي» فهذا يعني مدى تأثير الزخرفة في الفن الفلسطيني ، فقد شكلت التجارب الفنية المعنية باستخدام الزخرفة وعلى اختلاف أساليبها وتقنياتها اتجاها نراه من أكثر اتجاهات الفن الفلسطيني المعاصر اشكالية، فقد تنوع الانجاز كتعبير وبالتالي كشف عن التباين في الرؤية ، وهذا لا يعني أن اشكالية التعبير تكمن في هذا العنصر الجمالي الفولكلوري ،بل في طريقة معالجتنا ، وفي مواقفنا ورؤيتنا ، وقدراتنا التشكيلية والتعبيرية والأهداف التي ننشدها ، ذلك أن «الزخرفة» يمكن أن تكون «تزيينا» بمفهوم الديكور ويمكن أن تصبح تعبيرا عن واقع، عن حدث أو فكرة أوقضية، وقد استطاع البعض أن يشحن الزخرفة بطاقات تعبيرية لا حدود لها ، وقام بعضهم بتوظيفها توظيفا رمزيا، أي بما يتلاءم مع المحتوى الذي يستدعي شكله، والعلاقة بالتأكيد علاقة جدلية وفي بحثنا في هذا الاتجاه لن نحيط بكل ما ظهر من اعمال لكننا سنتناول نماذج تمثل الاتجاه خير تمثيل . وسنقف عند التجارب التي أكدت على الزخرفة في كل ما طرحته من موضوعات.
ـ3ـ
في مطلع الخمسينات كانت «التسجيلية» الصيغة السائدة في تجارب الرواد، وحين تناولوا موضوعات النكبة استخدموا الخيام والعائلات المشردة وعملوا على تسجيل مظاهر الواقع بما في ذلك الازياء الشعبية المتميزة بتكويناتها وزخارفها الفلسطينية ، وهكذا ظهرت الزخارف الفلسطينية في اللوحات التي استمدت موضوعاتها من الحياة الشعبية، وإذا أردنا أن نتحدث عن الجانب التسجيلي في الاتجاه الزخرفي للفن الفلسطيني فيمكن أن نذكر تجربة الفنان عبد الرحمن المزين الذي قام بتسجيل زخارف الأزياء الفلسطينية بمنتهى الدقة مستخدماً أزياء مختلف المناطق الفلسطينية ، وتحققت تسجيلته كنتيجة لدراسته الفولكلور الفلسطيني دراسة جمالية تاريخية، ورغبته في ربط الحاضر بالماضي لتأكيد الهوية الفلسطينية تاريخيا ، وقد وصل في بحثه إلى الزخارف التي استخدمها الكنعانيون فقام بتصويرها وتسجيلها وعبر موضوعات متنوعة مستقاة من متغيرات الحياة الفلسطينية من النكبة الى الثورة، واستمرت التسجيلية في نتاج بعض الفنانين إلى مطلع الثمانينات لأسباب لعل أهمها الحرص على تسجيل وتوثيق هذه الجماليات خوفا عليها من الضياع وكرد على محاولات الكيان الإسرائيلي الدخيل تزويرها وطمس معالمها، خصوصيتها ، ونسبها إليه. ثم أخذت الزخرفة في الفن الفلسطيني المعاصر ما هو أبعد من القيم التسجيلية وذلك حين عمل الفانون على توظيفها توظيفاً تعبيريا ورمزياً يخدم مختلف المضامين التي طرحوها ، وسنوضح ذلك عبر بعض التجارب المتنوعة القيم والوظائف والدلالات . وتمثل تجربة الفنانة سمية صبيح واحدة من التجارب التي اعطت للزخرفة الفلسطينية أهمية خاصة في كل ما أنجزته من أعمال «تصوير زيتي» . لقد عملت في البداية على تسجيل الزخارف عبر الثوب الفلسطيني ، ورغم امكانياتها التقنية والتشكيلية المتواضعة فقد استطاعت عبر الاستمرارية في الانجاز واستخدام الوحدات الزخرفية أن تصل إلى معالجة جديدة حققت لها الأبعاد التعبيرية والرمزية ، فلم تعد الزخرفة في لوحاتها مجرد جمالية تسكن الثورة الشعبي ، بل أصبحت عنصراً تعبيرياً نراه في مساحات الأرض والجبال والاشجار وكتل الطيور والحيوانات ومختلف الاشياء ، حتى السماء فرشتها بالزخارف الفلسطينية ، وهكذا تجاوزت المسألة التسجيلية لتقول لنا عبر المعالجة الزخرفية للواقع، ان الأرض فلسطينية والاشجار فلسطينية والمنازل فلسطينية والسماء فلسطينية . واعطت لعالمها الزخرفي الجديد ما هو شاعري وذلك حين عالجت الزخارف معالجة لونية غنائية وبذلك حققت محتوى الحنين وعشق الوطن والتوحد بجمالياته. وأخذت الزخرفة عدة أبعاد في تجربة الفنان عبد المعطي ابو زيد، فحين استخدمها في الزي الشعبي اراد الهوية الفلسطينية لعناصره الانسانية وخاصة المرأة ، وحين صاغها كخلفية لهذه العناصر اشار إلى الجذور الاصيلة لشعبنا الفلسطيني ، إلا أن الاستخدام المتميز الذي انفرد به «عبد المعطي» يمكن في تصويره الزخارف الي جانب المقاتلين والعمل على أنسنتها بحيث نحس بأنها تشارك المقاتل فعله الثوري، وهكذا يمكن أن نقول بأننا أمام زخرفة مقاتلة «إن جاز لنا التعبير» ، وعلى صعيد آخر تبدو الزخرفة وهي تشكل الخلفية الحضارية التي تحمي المقاتلين وتربطهم إلى أرضهم وتراث اجدادهم في آن واحد.
اما الفنان كمال بلاطه فقد انطلق من الزخرفة كقيمة تشكيلية تراثية تحقق لعناصره الانسانية المقاتلة هويتها الفلسطينية المتميزة ، ثم تطور باتجاه استخدام الكتابة العربية والزخرفة ، وبصورة أدق ، استخدم الكتابة العربية استخداماً زخرفياً ،وتميز في الموضوعات التي عالجها كما في صيغة التعبير، الصيغة التي نرى جذورها الفنية في جمالية «الأرايسك» ، الجمالية التي تعني لا نهائية الحركة، حركة الزخرفة ، حركة الخط واللون.. ففي لوحة تحت عنوان «الثورة» استخدم الكلمة «الثورة» استخداماً زخرفياً تعبيريا رمزيا، فقام بتكرار رسم «الكلمة» على شكل زخرفي لانهائي الحركة ، للدلالة على استمرارية الثورة.. وتنوعت الأفكار والمضامين بتنوع الرموز الزخرفية واستخداماتها المختلفة في تجربة الفنان سليمان منصور ، والشيء المتميز هو امكانيته التشكيلية الكبيرة وقدرته على شحن الزخارف بطاقات تعبيرية، بحيث تتحول الزخرفة إلى تعبير ، تماما كما العناصر الواقعية التشخيصية. وهكذا تميز الاتجاه الزخرفي في الفن الفلسطيني عبر المضامين والأفكار ، فلم تعد الزخرفة وسيلة لترجمة موقف جمالي ، بل اصبحت تعبيراً عن قضية.