المعتقد الشعبي الفلسطيني من الجذور الكنعانية الى الآفاق المعاصرة
التاريخ: 1421-12-10 هـ الموافق: 2001-03-05م الساعة: 00:00:00
صلة المعتقد الشعبي الفلسطيني بجذوره الكنعانية الفلسطينية ، صلة الإنسان الفلسطيني بأبيه وجدوده، ولو فقدت هذه الصلة ، لفقد نسب الإنسان هذا ، وأصبح لقيطاً تذروه رياح التاريخ مع ما تذروه من الرمال الزمنية، وتراكم عليه رماد القرون، وتحجر مع ما تحجر من أتربة وحيوان ونبات، وأصبح من المستحاثات التي ليس لها وجه ولا ملامح.
هي صلة الشجر بطبقات الأرض والبحر بالشاطئ والجبل بالسماء ، ولاسهل بالامتداد. صلة المخلوق بوجوده، والطفل بأمه الشرعية، وصلة العجوز بحفرة الموت التي اختارها لتضم عظامه وتوحدها مع التراب.
لا وجود للمعتقد دون أصل. ولا وجود لإيمان دون سبب وغاية، هكذا يفهم معنى المعتقد الشعبي ، امتداد زني ، وعمق مكاني ، علاقة جدلية بين الانسان، والمحيط الجغرافي والبشري والتاريخي.
يستمد المعتقد الشعبي مادته الاجتماعية والفكرية من أصول عريقة في القد. فلم يصل الإنسان الى إطلاق الأحكام الاعتقادية إلا من خلال التراكمات الاجتماعية والفكرية والنفسية التي بدأت منذ بدء الخليقة ، واتسعت لتشمل مناطق جغرافية ليس لها حدود وحدوداً تاريخية ممتدة الوجود.
هذا المعتقد الذي يتداوله الشعب الى هذا الزمن لم يأت من فراغ، ولم يستند على أعمدة من ملح. إنه يرتكز على أصول شعبية وتاريخية راسخة، راحت تفرع أغصانها. امتداداً في الزمن ، وامتداداً في الإنسان حتى وصلت الينا وتدخلت في صنع تصوراتنا نتمسك بها من حيث نشعر ولا نشعر ، وتتمسك بنا ولا تفارقنا، لتوحدنا حاضراً وتاريخاً لتوحدنا طفلاً وجداً كما توحدالانسان بشرعية انتسابه وانتمائه.
من أين يبدأ المرء ؟ لا أحد يدري طالما أن المعتقد الشعبي بما فيه من ملامح لا حصر لها يتداخل مع بنية التفكير ، والتصور الوجود لدى الفلسطيني قديماً وحديثا.
إن الشكل العام للعلاقة يفرض معتقدات واضحة لدى الأصل. فمنذ أن تصور الكنعانيون علاقاتهم بالوجود وبالقوى المحيطة صنعوا في مخيلتهم تلك الملامح المعتقدية، وراحت تتراكم حتى اكتملت لديهم الصورة الوجودية فأنتجت عالم الفكر ،والاسطورة، والثقافة المسلكية وأصبحوا يبثون ما تصوروه هنا وهناك، ويعمقونه فلسفة ومنطقاً، في النفس وفي الأرض حتى كتب له الخلود والبقاء والتأثير المستمر في الاحفاد.
يبدأ التصور الاعتقادي منذ آدم، هذا الإنسان العجيب الذي اعتبره المعتقد أول البشر، وكذلك اعتبره الكنعانيون، لقد قالوا إن آدم خلق من تربة سهل بالقرب من الخليل، وظل هذا الاعتقاد سائرا فينا لم يتوقف. تصوروا آدم أباً مقدساً إنه مخلوق من تربة أرض كنعان الممزوجة بدماء الآلهة. ينفخ الله في روح آدم يعطيه من عنصره شيئاً من النور وتعطيه آلهة كنعان شيئا من دمائها ليحافظ على توازنه بين الشر والخير.
وكيف هذا التوازن؟ ماذا يرى المعتقد في مقياسي الخير الدينية والفلسفية يرى الكنعاني أن الإنسان عندما يموت يذهب ليستريح قرب حبيبته الأرض، حيث تتوقف روحه عن الضوضاء الا يقول الناس في وسطنا الشعبي ـ (مات وارتاح) (الموت يريح) (الموت راحة) نعم هي تلك التصورات نفسها اعتقادات راسخة في أعماق النفس الفلسطينية منذ أمد بعيد.. بعيد..
ينتقل الإنسان الى العالم الآخر تدخل الأرواح عالماً آخر غير عالم المادة، ويرى المعتقد الشعبي أن تلك الروح تسرح في الكون ، تنطلق حرة من قيود الجسد ولدى الكنعاني يصبح الإنسان ظلاً .. روحاً لأن الجسد ينفى في التراب الروح تحاسب في العالم السفلي فإما أن تذهب الى جحيم أو الى نعيم وهذا عائد الى العمل السيئ أو الحسن.
كل تلك التصورات لم تغادر عقلية ووجدان الفلسطيني لا في القديم ولا الحديث. إن ذلك مرتبط بمجمل التصورات الدينية، والأخرى الاسطورية لعلاقة الإنسان بما بعد الوجود.
ولا يتصور المرء اعتقاداته بمعزل عن واقعه الاجتماعية والفلسفي. فالأرض توحي، والبحر يوحي لكن الذي يصنع المعتقد تلك الروابط المتينة بين الإنسان وأرضه وسمائه وبحره وجدوده وأجداثه وهياكله.
ولئن كانت معتقدات الخلق . والحياة والموت تشكل الخطوط الرئيسية في عقلية الإنسان الفلسطيني قديما وحديثاً فإن المعقدات التي تتدخل في تحديد المسلكية الاجتماعية تشكل خطأ مهماً في حياته، إنها تحدد تعامله مع نفسه وتعامله مع الآخرين من بني البشر، ومع الحيوانات جميعها أليفها ومتوحشها، ومع النباتات نافعها وضارها ومع الطير مدنية وبرية ووحشية صوت اليوم والغراب صوت شؤم نذير شر ، ورؤية الثعبان مخيفة لأنه أصل ابليس في معتقدنا الشعبي الفلسطيني يرى الإنسان أن صوت البوم ينذر بالخراب ولون الغراب الأسود يوحي بالظلمة والبؤس تمتد هذه التصورات منذ آلاف السنين يحملها الإنسان معه. وفي مخزونه وحركاته وتعامله. لقد نظر الكنعاني الفلسطيني اليها نظرة شؤم وحملها الى ابنائه. حقاً أن لون السواد يؤذي النفس، وحقاً إن صوت البومة يتجاوب مع صوت النعي والموت، والثعبان الذي تنفر منه ألا يتوحد مع الشيطان ألا يشعر المرء أن الحية بشتى أنواعها تحمل عداء لبني البشر يختلف عن عداء كافة الوحوش؟ لقد حمل الإنسان هذا المعتقد منذ الازل، وظل يفعل مفعوله الى الآن. لا يتواني المرء عن قتل الثعبان عندما يراه ولا يتواني عن طرد البومة والغراب عن البيوت والقبور كل ذلك لم يكون إلا تصوراً واحداً موحداً لدى الكنعاني ولدى أحفاده المعاصرين.
الكنعاني النظيف يكره الرجس والنجاسة . يهرب عن اماكن الفحش لأنه يعتقد أنها سبب الأمراض وجالبة البلاء لبني البشر، إنها مسكن الشياطين والأرواح الشريرة ينفر من النساء القذرات ومن الرجال الفاحشين لأنهم يقومون بأعمال إبليس لا يتعامل الكنعاني معهم لأنه يعتقد أن التعامل يسيء للروح والجسد. أليست هذه الاعتقادات تتحكم في عقلية ومسلكية الإنسان الفلسطيني الي اليوم ، ألا نقول إن الحمامات موطن الشياطين والجن، ألا نقول إن المرأة غير الطاهرة يجب أن تبتعد عن المرأة التي تلد طفلاً أو طفلة ألا نقول أن بيت الخلاء (المرحاض) هو موطن سكن الأبالسة؟ نعم لا نجد فرقاً بين ما نعتقده اليوم وبين ما حملناه في مخزوننا عن أجدادنا الكنعانيين.. إن المسلكية الصحيحة التي يحددها المعتقد الشعبي لهي جديرة بالاحترام. وإن كان ربطها يستدعي التأمل بمعانيها الغيبية وحتى الاسطورية.
إن المعتقدات الشعبية الفلسطينية تحمل في طياتها جذورها، وتحمل في معانيها أرقى التصورات حول الروح والنفس والسلوك . ولئن كان للانسان عزاء في هذا الوجود فعزاؤه التمسك بتلك التراثيات التي خلفها الأجداد منذ العصور القديمة. لقد صنعت هذا الإنسان حلقات تاريخية متصلة لم تفقد حلقة صلتها بالأخرى، لقد ارتبطت بالأرض والسماء، وارتبطت بالبشر والحيوان.وبعالم الغيب الذي حمل للعقل الأول السؤال عن هذا الوجود، عن الطفل والولادة عن الحياة القصيرة وعن الموت وما وراءه من غيبيات تؤثر في مسرى حياة الإنسان أيا كان.