توقيع الهدنتين الأولى والثانية تحت ضغط دول الاستعمار حال دون النصر
تعصب اليهود الديني واعتناقهم الفكرة الصهيونية
قوبل من العرب باستخفاف توافق أهداف الاستعمار البريطاني والمصالح اليهودية
السؤال الأخير : أما وقد أجبتم على هذه الأسئلة فهل لكم أن تجيبوا على سؤال نود أن نختتم به هذه الدراسة لمشكلة فلسطين ، والسؤال هو :
1- ما هي الأسباب الرئيسية لكارثة فلسطين؟
- كيف تعالج هذه القضية ، وما هي الخطة المثلى لحلها ، ولمشكلة اللاجئين ولاسترداد عروبة فلسطين؟
الجواب :
إن الإجابة على سؤالكم هذا بشقيه تحتاج إلى كتاب ضخم يحتوي بين دفتيه على قضية فلسطين كلها، أسبابها ، وسيرتها، ونتائجها ، ولا يتسع المجال لذلك، إذ لا يكفيه مقال، بل يحتاج إلى تفصيل واف لما يختلج في الصدور، وإيضاح مسهب لما يتساءل عنه الناس في كل مكان عن أسباب الكارثة ودقائقها، فلا بد من الإيجاز في الجواب والاختصار على ذكر الأسباب الرئيسية وإرجاء التفصيل إلى فرصة أخرى .
لقد اشتملت أحاديثي السابقة، على الإشارة عرضاً إلى بعض هذه الأسباب ، عند الإجابة على أسئلتكم العشرة، وأقول الآن إن الأسباب الرئيسية لكارثة فلسطين منها ما هو خارجي ، ومنها ما هو داخلي. وهذه الأسباب بعضها قديم وبعضها الآخر حديث .
الأسباب الخارجية :
فأما الأسباب الخارجية الرئيسية فهي :
تعصب اليهود الديني :
1- دوافع التعصب الديني الشديد عند اليهود وإصرارهم على استعمار فلسطين والاجتماع في بيت المقدس حول "الهيكل" (المكان الذي يقوم فيه المسجد الأقصى المبارك) . ورفضهم إنشاء الوطن اليهودي في غير فلسطين، كما وقع في مؤتمر (بال) الذي انعقد عام 1897 برئاسة "هرتزل" ، وفي غيره من المؤتمرات اليهودية ، واعتناق يهود العالم للفكرة الصهيونية والتفافهم حولها .
استغلال الشعور الديني عند البروتستانت :
2- الشعور الروحي المتأثر بالتوراة عند الإنجليز والأمريكيين البروتستانت خاصة لما ورد فيها من نبوءات استغلها اليهود لمصالحهم عن عودة اليهود إلى فلسطين، وقد جاء ذكر ذلك في مذكرات وايزمان، وفي مقررات مؤتمر الكنائس البروتستانتية الذي انعقد في عام 1944م في الولايات المتحدة ، تلك المقررات التي وقع عليها نحو خمسة آلاف قسيس يمثلون معظم الكنائس الأمريكية ، واستغلال اليهود لذلك الشعور الديني عند الإنجليز والأمريكيين حتى بلغ ما دفعته الولايات المتحدة الأمريكية للدولة اليهودية في بضع سنين ألف مليون دولار، هذا عدا سبعمائة وخمسين مليوناً أرغمت أمريكا حكومة ألمانيا الغربية على دفعها لليهود كتعويضات ولا تزال المساعدات والقروض والهبات الأمريكية تغدق بلا حساب لمصلحة اليهود وتقوية دولتهم، كما أن جيوش إنجلترا في مصر والسودان والأردن والعراق وليبيا وقبرص ومالطة مستعدة دائماً أن تحمي الدولة اليهودية .
أثر الحروب الصليبية :
3- ما خلفته الحروب الماضية بين الشرق والغرب المعروفة بالحروب الصليبية ، التي أثيرت فيها العواطف الدينية ، وما تلاها من حملات الجيوش العثمانية على شرق أوربا في نفوس كثير من الشعوب الأوربية وغيرها من إحن وأحقاد، وبغض عميق للعرب والمسلمين عامة، مما حملها على الوقوف إلى جانب اليهود .
أهداف الاستعمار في الأقطار العربية :
4- توافق أهداف الاستعمار البريطاني ومصالحه ، مع مصالح اليهود في القضية الفلسطينية ، ثم انضمام الولايات المتحدة الأمريكية إليهما فيما بعد ، وذلك لأن الاستعمار يرمي إلى ما يأتي:
أ- جعل الدولة اليهودية في فلسطين متكأ له، وخنجراً مسموماً يشهره في وجوه الدول العربية كلما أحس منها تمرداً عليه أو مقاومة له، ويضرب به جنوبها وفقاً لمصالحه .
ب- اتخاذ الوطن اليهودي حاجزاً يفصل الأقطار العربية في آسيا، عن الأقطار العربية في أفريقيا، ويقطع كل صلة برية بين هاتين القارتين .
ج- اتخاذ اليهود عائقاً دون تقدم الأمة العربية في أقطارها الواسعة ذات الثروات العظيمة من بترول ومعادن وغيرها والتي تقع في أهم مراكز العالم التجارية والجغرافية والعسكرية، ويزداد عدد سكانها زيادة مستمرة كما يستيقظ شعورها ويتنبه وعيها، ويخشى في المستقبل بأسها وطغيانها على الغرب، في الحين الذي أخذت فيه شعوب الدول المستعمرة تتردى في هاوية سحيقة من ترف الحضارة وطراوة العيش وفساد الأخلاق حتى أصبح كثير منها لا يطيق تكاليف الحروب وأعباءها، وقد ضعف تكاثر سكانها ، وخمدت حماستها .
أوربا تعارض استقلال شمالي أفريقيا :
ولهذه المناسبة أذكر أن بعض زعماء شمالي أفريقيا، كتبوا إليّ خلال الحرب الماضية عندما كنت في ألمانيا، لأعمل على إقناعها بالاعتراف باستقلال بلادهم ومدها بالسلاح، مقابل تعاونهم مع ألمانيا في الحرب، وقد تلقى الألمان بادئ الأمر هذا الاقتراح بالارتياح ، إلا أن أكثرية الدول الأوربية عارضته بشدة ووقفت ضده، ولا أنسى ما قاله لي يومئذ الدكتور "بروفر" وكيل وزارة الخارجية الألمانية لشئون الشرق وهو : أن ألمانيا تحيز هذا المشروع وتراه مفيداً لها، ولكن الدولة الأوربية الأخرى تعارضه معارضة شديدة، وحجتها في ذلك أن الأقطار العربية في شمال أفريقيا إذا استقلت حرمت أوربا من استعمارها مع أنها أقرب البلاد إليها، كما أن القوة التي ستتهيأ لها بنتيجة هذا الاستقلال ستهدد أوربا الآخذة في الضعف والانهيار" .
الانتداب البريطاني على فلسطين :
5- الخطة الاستعمارية التي سارت عليها إنجلترا لجعل فلسطين وطناً قومياً لليهود وموافقة عصبة الأمم على جعلها هي الدولة المنتدبة على فلسطين . وقد انتهزت إنجلترا هذه الفرصة لترسيخ أقدامها وتوطيد نفوذها في الأقطار العربية .
الفظائع الإنجليزية في عرب فلسطين :
6- ما قارفته إنجلترا في فلسطين من الفظائع طول عهد انتدابها الذي عملت خلاله على "وضع البلاد في حالات سياسية وإدارية واقتصادية تسهل إنشاء الوطن القومي اليهودي، كما نص عليه صك الانتداب الجائر ، وحرمان عرب فلسطين من استقلالهم وسائر حقوقهم السياسية، وإهدار مصالحهم ، وإفقارهم، واضطهادهم ونزع سلاحهم ، والتنكيل بهم بأفظع البطش والارهاق والظلم، يقابل ذلك من الناحية الأخرى تأييد إنجلترا لليهود وحمايتهم ورعاية مصالحهم وتشجيعهم على الهجرة وتمكينهم من الاستيلاء على الأراضي، وتسليحهم وتدريبهم تدريباً عسكرياً . وكذلك موقف السلطات الإنجليزية قبل معركة فلسطين وخلالها وتحيزها الشديد لليهود ومساعدتهم عسكرياً في المعارك التي وقعت بينهم وبين العرب وتآمرهم معهم لإجلاء العرب كما فعلت في طبرية وحيفا وطيرة حيفا وغيرها .
مساعدة إنجلترا وأمريكا لليهود :
7- عدم التكافؤ بين الجبهة العربية على ما نعرف من أحوالها، والجبهة اليهودية التي عضدتها إنجلترا وأمريكا وغيرهما من الدول الاستعمارية عضداً عظيماً من الوجهات السياسية والمالية والعسكرية . وقد بلغت المساعدات المالية الأمريكية لليهود منذ عام 1948، من هبات وقروض وتبرعات ، نحو ألفي مليون دولار .
أما المساعدات الإنجليزية فلم تكن أقل أهمية وأثراً في مساعدة اليهود خلال عهد الانتداب وأثناء معركة فلسطين عندما كان الإنجليز لا يزالون في فلسطين، وكانوا يدعون الحياد حينئذ . فقد نشرت جريدة "مشمار" اليهودية في شهر مارس 1948 أن السلطات البريطانية أعطت اليهود من الأسلحة والذخائر وغيرها من المواد الحربية ما قيمته خمسة ملايين جنيه بحجة أنها مخلفات حربية، ونشرت جريدة "بديعوت" اليهودية حول ذلك التاريخ أن اليهود اشتروا من الجيش الإنجليزي ألف سيارة نقل كبيرة، وصرح مندوب الوكالة اليهودية في جريدة "بوست" التي تصدر في القدس باللغة الإنجليزية بأن نواة قوة الطيران اليهودي كانت خمسين طياراً تدربوا في فرقة سلاح الجو الملكي البريطاني .. وغير ذلك .
الأسباب الداخلية :
وأما الأسباب الداخلية فأهمها ما يأتي :
1- ما أصاب الأمة العربية في العصور الأخيرة من وهن في الأخلاق، وضعف في الإيمان والعزيمة الوطنية ، وما انتشر فيها من الفوضى وضعف التنظيم .
غفلة الأمة العربية عن الخطر :
2- الغفلة الشديدة عن تعرف مواطن الخطر المحدق بكيان الأمة العربية بسبب الغزوة الاستعمارية والمؤامرة اليهودية، والاستخفاف بالأخطار استخفافاً ناشئاً عن الإهمال وخور العزيمة والاتكال، وعدم معرفة ما تنطوي عليه صدور اليهود من أحقاد قديمة ، والجهل بنيات المستعمرين الرهيبة ومكرهم السيئ .
لقد كان السواد الأعظم من العرب يستخف بهذه المؤامرة اليهودية الاستعمارية ولا يقيم لها وزناً. وكثيراً ما كنت أرى ابتسامة الاستخفاف والاستغراب ترسم على أفواه كثير من الكبراء والساسة العرب عندما كنت استرعى أبصارهم للأخطار المقبلة، وكان بعضهم يصارحني بما معناه : هل من المعقول أن إنجلترا التي لها كل هذه الصلات الوثقى بالعالمين العربي والإسلامي، تغامر بكل مصالحها وعلاقاتها من أجل خاطر اليهود! وهل يعقل أن إنجلترا المسيحية تفرط في هذه البلاد المقدسة ولا تبالي بشعور المسيحيين في العالم؟ أن هذا لمن المستحيل، وأن إنجلترا إنما تخادع اليهود مخادعة ولن تعطيهم شيئاً مذكورا ..