وحين تولي رئاسة الوزراء عام بعد فوز حزبه الرفاه في الانتخابات البرلمانية عام 1996، اعتبرها نجم الدين أربكان الفرصة السانحة لقطع المسافة الأكبر في تحقيق مشروعه خاصة في جانبه السياسي من خلال الإسراع في وتيرة التوجه شرقا على كل المستويات وتبنيه لفكرة تأسيس مجموعة الثمانية الإسلامية الكبار التي تضم أكبر ثمان دول إسلامية يراها بداية تحالف اقتصادي إسلامي عملاق يمكن أن يغير الوضع العالمي ويخرج بالعالم الإسلامي من أسر الهيمنة العالمية.
لكن ما حدث أن مشروع أربكان كان رغم أهميته قفزة تفوق كثيرا طاقته بل وطاقة بلاده السياسية كما كان من الخطر بما لم تكن لتسكت عليه دوائر النفوذ والهيمنة العالمية...فحدث الانقلاب العسكري الصامت وأسقطت وزارة نجم الدين أربكان في يونيو 1997 ثم صدر قرار المحكمة الدستورية في نوفمبر من العام نفسه بحل حزبه – الرفاة- ومنعه من العمل السياسي.
***
في زيارة أخيرة لتركيا التقيت نجم الدين أربكان ضمن تجمع من المثقفين والمهتمين بالتجربة التركية ودار بيننا نقاش طويل أتبعته بمقابلة خاصة شرح فيها الرجل رؤيته لمشروع " النظام العادل" الذي يبشر به.
يميز نجم الدين اربكان بين ما يسميه بالنظرة الإسلامية وبين النظرة الغربية للعالم ويرى أن هناك فروق كبيرة تجعلهما نقيضان لا يلتقيان، ويعتقد أن أهم ما يجب على تركيا فعله هو ترك التبعية للغرب والعودة مجددا للعالم الإسلامي الذي يمكن أن تتولى قيادته فيما ستبقي تابعة وذليلة إذا ما أصرت على أن تبقى متوجهة للغرب.
لدى أربكان موقف عدائي للصهيونية العالمية التي يراها مسئولة عن كل مصائب العالم وكوارثه وتقترب رؤيته لليهود مما ورد في بروتوكولات حكماء صهيون.. إذا يرى أن الصهاينة وأعوانهم مسئولون عن إفساد العالم عبر ثلاث وسائل: الحروب ( ويري ان 11 سبتمبر عمل صهيوني لخدمة إسرائيل ) والأفكار المرذولة ( مثل أفلام هوليود ) والأنظمة السياسية والاقتصادية الدولية التي تسيطر عليها ( الأمم المتحدة- صندوق النقد- البنك الدولي ).
ويؤمن أربكان بأن هناك تحالف وثيق بين الصهيونية والرأسمالية العالمية الفاسدة أدى إلى حصار عالمي على المسلمين بحيث يتم التحكم في كل تعاملات العالم الإسلامي لتصب – في النهاية- في مصلحة إسرائيل.
يري أربكان أنه ليس بإمكان تركيا أن تقيم منفردة تجربة نهضة بل لابد من أن تكون ضمن مشروع عالمي شامل يعتمد على الإسلام ولابد أن يؤثر في شكل العالم ليصبح أكثر عدلا..يدعو الرجل إلى ما يسميه مؤتمر يالتا الثاني الذي يجب أن يؤسس لعالم جديد يتجاوز الظلم الذي تسبب فيه تحالف الصهيونية مع الرأسمالية.
يبدأ مشروع النظام العادل الذي تبناه أربكان بتأسيس اتحاد بين الدول الثمانية الإسلامية الكبار ( تركيا- مصر- ايران- نيجيريا- باكستان- اندونيسيا- بنجلاديش- ماليزيا )، وهو ما وضع بذرته حين تولى رئاسة الوزراء بتأسيس قمة الثمانية الكبار، على أن يتحول هذا تكون نواة لتجمع الستين دولة الإسلامية في منظمة واحدة تضمها يمكن أن تسمى بمنظمة الأمم المتحدة للدول الإسلامية.
وامتدادا لذلك فمن المفترض أن يتبنى المشروع تأسيس منظمة للتعاون الدفاعي المشترك بين الدول الإسلامية على غرار حلف الأطلسي ( الناتو)، ومنظمة لسوق إسلامية مشتركة على غرار الاتحاد الأوربي، والاتفاق على وحدة نقد مشتركة ( الدينار الإسلامي ) بدلا من التعامل بالدولار، وتأسيس منظمة للتعاون الثقافي للدول الإسلامية على غرار اليونيسكو.
بالرغم من اليوتوبيا التي يقوم عليها مشروعه فإن أربكان ليس هو الثائر الحالم الذي يجري وراء عواطفه من دون حساب. كما أنه ليس الانفعالي الذي قد يضطر إلى العنف .فالرجل طوال عمره لم تلجئوه التضييق والاضطهاد إلى العنف أو الخروج على النظام. وقد يصح النظر إلى أربكان كصاحب مشروع انقلابي ولكن على الهيمنة الغربية الرأسمالية على العالم.
حين استسفرت عما إذا كان انقلابيا جديدا .قال أربكان إن مقاومته سلمية مثل غاندي..وهي تقوم على مقاطعة النظام الاقتصادي الظالم الذي تتحكم فيه الرأسمالية الغربية المتوحشة، وهو متأثر جدا بنموذج غاندي الذي انتصر على بريطانيا بماعز واحدة؛ شرب لبنها ولبس صوفها مدة ستة أشهر إذ كان هذا دلالة على قدرته على الاستغناء عن الغرب وفي الأخير اضطرت بريطانيا إلى القبول بمطالبه..إنها مشروع للتخلص من أسر الاستهلاكية الغربية لإنجاز تحرر حقيقي...هو يرى أن العنف لا يجدي.وأن الرصاص الحقيقي الذي يؤثر في الغرب هو التحرر من قبضته وإقامة "النظام العادل"
سعى أربكان لتطبيق هذا المشروع في كل مراحل حياته ولما وصل إلى السلطة كان لابد أن يخرج منها إذ لم تكن تحتمله المعادلة السياسية ليس فقط في تركيا بل – وهذه هو الأهم- في العالم الذي تتحكم به توازنات دولية لم تكن لتسمح لأربكان ونظامه العادل بالاستمرار
أسقطت حكومة أربكان وحل حزبه ومنع من العمل السياسي ثم بدأت الحكومات التالية عليه في إلغاء كل ما قام به طوال فترة وزارته وخاصة مجموعة الثمانية الإسلامية التي تواطئ الجميع على تجميدها ثم إفراغها من مضمونها.
***
مع انقلاب العسكر في نوفمبر 1997 بدأ الخلاف ومن ثم الانقسام داخل الحركة الإسلامية التركية ( مللي جورش ) حيث ثار التساؤل: هل نبقى على مشروع النظام العادل أو الأربكانية الذي تسبب في الانقلاب؟ أم نبدأ تفاهما مع القوى الكبرى الأمريكية والغربية التي بيدها كل أوراق اللعبة بالمفهوم الساداتي؟ ( هل هناك وجه شبه بين التجربة الأربكانية والتجربة الناصرية؟!)
لقد دخلت الحركة طريقا طويلا للمراجعات تمايز فيه تياران: الأول يمثله المقربون من أربكان والقادة التاريخيين للحركة والثاني يمثله الجيل الأصغر سنا والأكثر برجماتية والذي واجهه أربكان بشدة ظهرت بانحيازه السافر لرجله المقرب رجائي قوطان ضد عبد الله جول في المنافسة على رئاسة حزب الفضيلة ( فاز قوطان بصعوبة وبدعم من أربكان ).. استمر الخلاف أربع سنوات تقريبا وحين جرى حل حزبها الجديد الرابع ( الفضيلة ) خرج الخلاف إلى العلن وانفصل التيار الثاني ( الشباب البرجماتيين ) وأسسوا حزبا مستقلا ( العدالة والتنمية ) فيما أسس القادة التاريخيون ي حزب ( السعادة ) الوارث الحقيقي للمشروع الأربكاني؛ مشروع النظام العادل