الأذان في تركيا عالم خاص، وقصة فريدة بين شعوب العالم، تتشابك في فصولها تقاليد القصور العثمانية، ومعركة الشعب ضد العلمانية، وتراث عريق من المقامات الموسيقية، وهذه بعض تفاصيلها..
والأذان هو الصوت والإشارة التي تنبه المسلمين إلى وقت الصلاة، وفي السنة الأولى من الهجرة النبوية (622م) -أو الثانية (623م) في بعض الروايات- كان أول أذان في الإسلام، رآه الصحابي عبد الله بن زيد بن ثعلبة في المنام، فأقره عليه النبي صلى الله عليه وسلم بعد تصديق الوحي، وأمر عبد الله بأن يعلم كلماته للصحابي بلال الحبشي الذي كان أندى وأحلى منه صوتا؛ فكان أول من رفع الأذان في الإسلام؛ ليظل نداء ولحنا خالدا تردده الدنيا من لحظتها إلى يوم الدين. ومن بين شعوب العالم كان الأتراك نسيجَ وحدِهم في الأذان الذي لم يعرف حالة من الخصوصية مثل تلك التي عرفها عند الأتراك أصحاب أجمل وأغرب قصة في تاريخ الأذان.
الأتراك والأذان
قليلة هي المصادر والمراجع التي تؤرخ لمسيرة الأذان عند الأتراك السلاجقة مؤسسي أول دولة تركية بالأناضول (1070- 1299م)، غير أن بعضا من الآثار الدينية التي تركوها في مناطق قونيا وقيصري وسيواس ونيغده بوسط الأناضول التركي تدل على أن السلاجقة كان لديهم اهتمام بالغ بالأذان. وهو شيء غير مستغرب؛ إذ إن الذي بنى الجوامع والمساجد ذات مآذن عالية وزخارف مبهرة ومدارس لتحفيظ القرآن والحديث النبوي وعلوم الدين.. لا يمكن أن يغفل أهمية الأذان في الإسلام.
غير أن العناية التركية بالأذان تبدو أكثر وضوحا عندما ننتقل لفترة الدولة العثمانية التي دامت حوالي 6 قرون (1300-1923م)؛ إذ نجد أن السلاطين والأمراء والباشوات وحتى زوجات السلاطين وبناتهم أولوا عظيم الرعاية والاهتمام بأذان الصلاة. ففي مراكز ثقافية، مثل إستانبول وبورصا وقونيا وإزمير كان للأذان وضعية، خاصة في الثقافة الشعبية أطلق عليها "سراي تعويرى" (أي طريقة أو أسلوب السراي) في إشارة إلى الذين كانوا يقومون بأداء الأذان في الجوامع السلطانية في شهر رمضان على طراز معيّن.
وقد خصص السلاطين قسمًا داخل السراي الحاكم تحت اسم "مؤسسة الأذان"، كان يتم فيها انتقاء أصحاب الأصوات العذبة لتلقينهم دروسا في الموسيقى، ومن ثم اختيار من يصلح منهم لأداء الأذان. وكان مؤذن مسجد أو جامع السراي يطلق عليه تعبير "باش مؤذن" أو "هُنكار مؤذن" (أي كبير المؤذنين) الذي يقوم بأداء الأذان يوم الجمعة والأعياد في الجوامع الكبيرة التي كان السلطان يذهب إليها. كما كان هناك مجموعة من المؤذنين لدى كبير المؤذنين تكونت من 15-30 مؤذنا، كان يطلق عليها تعبير "مؤذنانى خاصة".
وللتدليل على الاهتمام الذي أولاه السلاطين العثمانيون للأذان يكفي أن نذكر أنهم أوقفوا وقفيات خيرية من أجل الأذان، كما هو الحال مع وقفية جامع السليمانية (إستانبول)، ووقفية "يني جامع" (إستانبول) لخديجة طورخان سلطان. وقد وردت الجملة التالية في وقفية السليمانية : "يلزم تعيين عدد 24 مؤذنا، على أن يكون المؤذن مالكا وداريا بالمقامات الموسيقية وماهرا في فروع المقامات وفن توزيع الأدوار والترانيم.. ويحصل على مخصص يومي بقيمة 5 آقجات".
أما في وقفية يني جامع فنطالع الجملة التالية : ".. يتم تعيين اثني عشر نفرا كمؤذنين للأوقات الخمسة، على شرط أن يتمتعوا بالعفة والصلاح الديني، وأن يكون كل منهم عالما بفن المقامات، وبصيرا بعلم الميقات، وذا أنفاس قوية، رفيع الصوت.. على أن يتقاضى كل مؤذن من المشار إليهم راتباً يومياً بقيمة 10 آقجات، والمميزون منهم على راتب 12 آقجه". كما كان يطلق تعبير "أذان الجمهور أو الجماعة" على الأذان الذي يقرأ من طرف أكثر من مؤذن سواء في مساجد السراي أو الجوامع الكبيرة. وقد استحدثت وظيفة رئيس المؤذنين وقت حكم السلطان بايزيد الثاني (1481-1512م).
وقد كان الأذان مركز اهتمام الكثير من الشعراء والأدباء في كل فترات التاريخ التركي حتى في العصر الحديث، وكان ممن اهتموا به في أدبهم أدباء كبار من أمثال : نجيب فاضل، ويحيى كمال، وأحمد هاشم، ومدحت جمال كونطاي، وآقا جوندوز، وخالدة نصرت زورلوطونا، وفاروق نافذ، وعلي علوي قوروجو، وسزائي قرا قوش؛ حيث كتبوا عنه الكثير من الأشعار والقصائد، أو استخدموه في أسطر رواياتهم وقصصهم.
محنة الأذان
|
بانوراما ميدان السلطان أحمد بإستانبول |
استمر الأتراك يتبعون أداء الأذان باللغة العربية منذ دخولهم الإسلام في موطنهم الأصلي بآسيا الوسطى، وكذا في وقت تأسيس أول دولة لهم في الأناضول، وهي الدولة السلجوقية، وأيضا في أوقات الدولة الثانية المعروفة بالدولة العثمانية، هذا الأمر استمر حتى فترة ظهور المد القومي التركي، أو ما يسمى بالتتريك، بعد صدور لائحة المشروطية الثانية (الاسم الذي أطلقه الأتراك على الدستور الثاني 1908-1918م)؛ حيث بدأ فريق من القوميين الترك الدعوة إلى تتريك الأذان وقراءته بالتركية.
ويحتمل أن يكون الأديب التركي ضياء جوك آلب أول من دعا للفكرة في عام 1918 بعد انهيار الدولة العثمانية، وتصاعد المد القومي والطوراني في منطقة سالونيك التي تتبع اليونان حاليا، وتقول الموسوعة الإسلامية الجديدة (بالتركية) : إن أتاتورك طلب من إسماعيل حقي بالطجى أوغلو في عام 1928م الذي كان يعمل مدرسا بكلية "الإلهيات" أن يدخل مادة في لائحة الإصلاحات (المادة الثالثة) تتعلق بضرورة أن يكون كل شيء بالتركية.
وفى 10-4-1928 صدر قانون التشكيلات الأساسية الذي رفعت فيه عبارات "إن الإسلام دين الدولة" و"إن المجلس الوطني هو الذي يطبق الأحكام الشرعية".
وفى عام 1931 عيّن أتاتورك ورشيد غالب وزير المعارف عدد تسعة من المؤذنين لكي يؤذنوا بالتركية، دون النظر للمعارضة الجارفة من عموم الشعب. لدرجة أن أتاتورك أصدر أوامره للشرطة والأمن بمتابعة أداء الأذان بالتركية، ومعاقبة كل من يخالف.
ويعد الحافظ عمر بك السالونيكي أول من أذن بالتركية -على مقام سوزناق- في عام 1932 في جامع حصار بمدينة إزمير الساحلية. كما تعرض المؤذن طوبال خليل للضرب والاعتقال من الشرطة بعد أن أذن بالعربية في "أولو" (جامع بمدينة بورصا وسط الأناضول التركي) عام 1933م. ومع علم أتاتورك بالواقعة والرفض الشعبي للأذان بالتركية قطع زيارته لإزمير، وذهب لبورصا، وقال لوكالة أنباء الأناضول التركية : "مثل هؤلاء الرجعيين الجهلاء لن ينجوا من قضاء الجمهورية.. إن المسألة ليست متعلقة بالدين قدر ما هي متعلقة باللغة"، وظلت الشرطة والقضاء يعاقبان بالحبس لمدة 3 أشهر وغرامة مالية لكل من يقوم بالأذان بالعربية طبقاً لنص المادة 526/ عقوبات حتى عام 1941م.
ويعد كمال بيلاو أوغلو شيخ الطريقة التيجانية وخليفتة عبد الرحمن بالجي هما اللذان قادا حملة الأذان بالعربية بعد عام 1941م. حيث تعرض الكثير من المؤذنين بالعربية للحبس والعقوبات المالية، والوضع في مصحات ومشافي المجانين. في يوم 22-9-1948 صدر تعميم (فتوى) جريء من رئاسة الشؤون الدينية التركية باعتبار الأذان بالعربية غير مخالف للقانون. وفي أول انتخابات مدنية حرة في تركيا خاض عدنان مندريس منافسة مع خليفة كمال أتاتورك عصمت إينونو تركزت بالأساس علي مطلب جماهيري واحد هو إلغاء المادة 526 عقوبات التي تحظر الأذان بالعربية، ونجح مندريس في اكتساح منافسه وشكل أول حكومة مدنية كان أول ما فعلته إعادة الأذان بالعربية مرة أخرى يوم 16-6-1950 المطابق لأول يوم لشهر رمضان لعام 1370هـ. ولمّا كان الأذان العربي قد تعرض لمحنة التتريك في تاريخ الأتراك المعاصر؛ فإن المخرج السينمائي إسماعيل جونش وكاتب السيناريو عمر لطفي مَتا أخرجا فيلما في عام 1991 بعنوان "شيزمة" (أي الحذاء) يحكي قصة مقاومة أهالي قصبة تركية (تقع على ساحل البحر الأسود) لأداء الأذان بالتركية، وتحديهم للسلطات حتى تم إعادة الاعتبار للأذان.
مقامات الأذان التركي
وعند الأتراك مقام لكل أذان للصلاة؛ وتختلف المقامات ذات الأصول الفارسية من أذان لآخر؛ فيقرأ الأذان على مقام ديلكش أزاران (الصبا) بالنسبة لصلاة الفجر في إستانبول، وعلى مقامي راست وحجاز لصلاة الظهر، ومقامات بياتي وحجاز وأووشاق للعصر، وأذان صلاة المغرب على مقامات حجاز وراست وسيكا ودوجاه، أما بالنسبة لمقام أذان العشاء فكان يؤذن على مقامات حجاز وبياتي وراست ونوا وأووشاق.
وكان من العادة أيضاً في مدينة إستانبول أن تقرأ الصلاة والسلام على رسول الله قبل أذان الفجر، وبمقام ديلكش خاوران، ثم يعقبها قراءة قصيدة مدح وقبل الأذان أيضاً. وكان قراءة الصلاة والتسليم -قصيرة الوقت- على النبي الهادي تحدث أيضاً بعد قراءة الأذان لصلوات الظهر والعصر والعشاء. مع الوضع في الاعتبار أن للمؤذن الحق في أداء الأذان بالمقام الموسيقي الذي يعرفه، وليس شرطاً أن يكون على أحد المقامات المشار إليها سالفاً. كما عرفت مدينة إستانبول قراءة الأذان المقابل -يقرؤه مؤذنان في وقت واحد بالتناوب- تقليدا لما وقع في العصر الأموي.
أشهر مؤذني الأتراك
ويعد الحافظ جمال أفندي (مؤذن جامع "والدة سلطان" في ميدان آق سراي)، والحافظ سليمان قراباجاق (مؤذن جامع يني والدة سلطان بميدان أسكُدار) هما أشهر من قرأ الأذان المزدوج في نهاية العصر العثماني. وكان المؤذن يتبع نفس المقام الموسيقي للأذان الداخلي (الثاني والقصير) توافقاً لما سار عليه الخطيب في قراءة الآيات عند صعوده للمنبر يوم الجمعة.
لقد كانت سرايات الحكم العثماني تتضمن موسيقيا شهيرا يقوم بوظيفة تدريب وتعليم المؤذنين على قراءة الأذان بالمقامات المختلفة. وكان من مشاهير الموسيقيين الذين عملوا بسراي السلطان في القرن التاسع عشر : شاكر آغا، وحمامي زاده إسماعيل ده ده، وحاجي هاشم بك، ورفعت بك. وفى مطلع القرن العشرين كان من مشاهير المؤذنين بإستانبول الحافظ شوكت والحافظ كمال (جامع السليمانية)، والحافظ سليمان (جامع يني والده بميدان أسكدار)، والحافظ كريم آق شاهين (جامع بايزيد)، والحافظ جمال أفندي الآقسرائي (جامع والدة سلطان بميدان آقسراى).
واليوم ومع تولي رئاسة أو هيئة الشؤون الدينية التركية الشأن الديني بعد إلغاء وزارة الأوقاف الإسلامية عام 1926م حافظت على عادة الأتراك العثمانيين بتعيين مؤذن لكل جامع، كما اعتمدت تنظيم دورات لتدريب واختيار ومسابقة سنوية للمؤذنين؛ وهو ما أدى إلى ظهور مجموعة كبيرة جداً -يصعب حصر عددها- من المؤذنين المميّزين بأصواتهم العذبة، يؤدون الأذان في مدن وربوع ونجوع تركيا. ربما كان من أشهرهم في هذه الأيام أسماء مثل : بكير بيوك باش، وشريف دومان، والحافظ مراد، ومحمد سفينش.